college-mb

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

ce Forum est consacré au soutien scolaire et aux activités des nos club pédagogiques


    * تفسير سورة الكهف ( الجزء السادس و اخير )

    kimo-key
    kimo-key
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 102
    تاريخ التسجيل : 17/10/2010
    العمر : 29
    الموقع : https://college-mb.ahlamontada.com

    * تفسير سورة الكهف ( الجزء السادس و اخير ) Empty * تفسير سورة الكهف ( الجزء السادس و اخير )

    مُساهمة  kimo-key الخميس أكتوبر 21, 2010 5:44 am

    (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف:82)

    قوله تعالى: { لِغُلامَيْنِ } يعني صغيرين.

    ( يَتِيمَيْنِ ) قد مات أبوهما.

    ( فِي الْمَدِينَةِ ) أي: القرية التي أتياها.

    ( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا ) أي: كان تحت الجدار مال مدفون لهما.

    ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ) فكان من شكر الله - - لهذا الأب الصالح أن يكون رؤوفاً بأبنائه، وهذا من بركة الصلاح في الآباء أن يحفظ الله الأبناء.

    ( فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا) أي: أراد الله { أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } أي: أن يبلغا ويكبرا حتى يصلا إلى سن الرشد، وهو أربعون سنة عند كثير من العلماء، وهنا ما قال "فأردنا" ولا قال "فأردت"، بل قال: { فَأَرَادَ رَبُّكَ }؛ لأن بقاء الغلامين حتى يبلغا أشدهما ليس للخضر فيه أي قدرة، لكن الخشية - خشية أن يرهق الغلام أبويه بالكفر - تقع من الخضر وكذلك إرادة عيب السفينة.

    ( وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا ) حتى لا يبقى تحت الجدار، ولو أن الجدار انهدم لظهر الكنْز وأخذه الناس.

    ( رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) هذه مفعول لأجله، والعامل فيه أراد، يعني أراد الله ذلك رحمة منه جلَّ وعلا.

    ( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) يعني ما فعلت هذا الشيء عن عقل مني أو ذكاء مني ولكنه بإلهام من الله عز وجل وتوفيق؛ لأن هذا الشيء فوق ما يدركه العقل البشري.

    ( ذَلِكَ تَأْوِيلُ ) أي ذلك تفسيره الذي وعدتك به ) سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ)(الكهف: الآية78). أي: تفسيره، ويحتمل أن يكون التأويل هنا في الثاني العاقبة، يعني ذلك عاقبة ما لم تستطع عليه صبراً؛ لأن التأويل يراد به العاقبة ويراد به التفسير.

    ( مَا لَمْ تَسْطِعْ ) وفي الأول قال: { مَا لَمْ تَستْطِعْ } لأن "استطاع واسطاع ويستطيع ويسطيع" كل منها لغة عربية صحيحة.

    وقد ذكر شيخنا عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله تعالى - في تفسيره (تيسير الكريم الرحمن) فوائد جمة عظيمة في هذه القصة لا تجدها في كتاب آخر فينبغي لطالب العلم أن يراجعها لأنها مفيدة جداً.

    وبهذا انتهت قصة موسى مع الخضر.

    ثم ذكر الله تعالى قصة أخرى سألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال:

    ***

    (وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) (الكهف:83)

    قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ } سواء من يهود أو من قريش أو من غيرهم.

    ( عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ) أي: صاحب القرنين، وكان له ذكر في التاريخ، وقد قال اليهود لقريش: اسألوا محمداً عن هذا الرجل؛ فإن أخبركم عنه فهو نبي، ولماذا سمي بذي القرنين؟ قيل: معناه ذي الملك الواسع من المشرق والمغرب، فإن المشرق قرن والمغرب قرن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن المشرق: "حيث يطلع قرن الشيطان"[44] ، فيكون هذا كناية عن سعة ملكه، وقيل: ذي القرنين لقوته، ولذلك يعرف أن الفحل من الضأن الذي له قرون يكون أشد وأقوى، وقيل: لأنه كان على رأسه قرنان كتاج الملوك، والحقيقة أن القرآن العظيم لم يبين سبب تسميته بذي القرنين، لكن أقرب ما يكون للقرآن العظيم "المالك للمشرق والمغرب"، وهو مناسب تماماً؛ حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الشمس إنها: "تطلع بين قرني شيطان"[45] .

    (قُل ) لمن سألك: { سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً } وليس كل ذكره بل ذكراً منه، ثم قصَّ الله القصة:

    ***

    (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) (الكهف:84)

    قوله تعالى: { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ } وذلك بثبوت ملكه وسهولة سيره وقوته.

    ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ) أي شيئاً يتوصل به إلى مقصوده، وقوله: { من كل شيء } لا يعم كل شيء؛ لكن المراد من كل شيء يحتاج إليه في قوة السلطان، والتمكين في الأرض، والدليل على هذا أن "كل شيء" بحسب ما تضاف إليه، فإن الهدهد قال لسليمان عليه السلام عن ملكة اليمن سبأ: { وأوتيت من كل شئ} [النمل: 23] ، ومعلوم أنها لم تؤت ملك السموات والأرض، لكن من كل شيء يكون به تمام الملك، كذلك قال الله تعالى عن ريح عاد: {تدمر كل شيء } [الأحقاف: 25] ، ومعلوم أنها ما دَمَّرت كل شيء، فالمساكن ما دُمِّرت كما قال تعالى: ) فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ )(الاحقاف: الآية25)

    (فَأَتْبَعَ سَبَباً) (الكهف:85)

    قوله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَباً } أي: تبع السبب الموصل لمقصوده فإنه كان حازماً، انتفع بما أعطاه الله تعالى من الأسباب؛ لأن من الناس من ينتفع، ومن الناس من لا ينتفع، ولكن هذا الملك انتفع {)فَأَتْبَعَ سَبَباً } وجال في الأرض.

    ***

    (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) (الكهف:86)

    قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ } من المعلوم أن المراد هو المكان الذي تغرب الشمس فيه، وهو البحر؛ لأن السائر إلى المغرب سوف يصطدم بالبحر والشمس إذا رآها الرائي وجدها تغرب فيه.

    ( وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) هي أرض البحر { حَمِئَةٍ } مسودة من الماء، لأن الماء إذا مكث طويلاً في الأرض صارت سوداء، ومعلوم أنها تغرب في هذه العين الحمئة حسب رؤية الإنسان، وإلاَّ فهي أكبر من الأرض، وأكبر من هذه العين الحمئة، وهي تدور على الأرض، لكن لا حرج أن الإنسان يخبر عن الشيء الذي تراه عيناه بحسب ما رآه.

    ( وَوَجَدَ عِنْدَهَا ) أي عند العين الحمئة وهو البحر ( قَوْماً )

    ( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) يعني أن الله خيره بين أن يعذبهم بالقتل أو بغير القتل أو يحسن إليهم؛ وذلك لأن ذي القرنين ملك عاقل، ملك عادل، ويدل لعقله ودينه أنه:

    (قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً(87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً) (الكهف:88)

    حكمٌ عدل: { أَمَّا مَنْ ظَلَمَ } وذلك بالشرك لأن الظلم يطلق على الشرك وعلى غيره، لكن الظاهر، والله أعلم، هنا أن المراد به الشرك لأنه قال: ( وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى )

    يقول: { أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } العذاب الذي يكون تعزيراً، وعذاب التعزير يرجع إلى رأي الحاكم، إما بالقتل أو بغيره.

    (ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً) لأن العقوبات لا تطهر الكافرين، فالمسلم تطهره العقوبات، أما الكافر فلا، فإنه يعذب في الدنيا وفي الآخرة، نعوذ بالله من ذلك.

    قوله: (نُكْراً ) ينكره المُعَذَّب بفتح الذال، ولكنه بالنسبة لله تعالى ليس بنُكر، بل هو حق وعدل، لكنه ينكره المُعَذَّب ويرى أنه شديد.

    ( وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ) المؤمن العامل للصالحات له جزاء عند الله { الْحُسْنَى } وهي الجنة كما قال تعالىSadلِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )(يونس: الآية26)، فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن: { الْحُسْنَى } هي الجنة. والزيادة هي النظر إلى وجه الله [46].

    ( وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ) أي سنقول له قولاً يسراً لا صعوبة فيه، فوعد الظالم بأمرين: أنه يعذبه، وأنه يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً، والمؤمن وعده بأمرين: بأن له { الْحُسْنَى } وأنه يعامله بما فيه اليسر والسهولة، لكن تأمل في حال المشرك بدأ بتعذيبه ثم ثنى بتعذيب الله، والمؤمن بدأ بثواب الله أولاً ثم بالمعاملة باليسر ثانياً، والفرق ظاهر لأن مقصود المؤمن الوصول إلى الجنة، والوصول إلى الجنة لا شك أنه أفضل وأحب إليه من أن يقال له قول يُسر، وأما الكافر فعذاب الدنيا سابق على عذاب الآخرة وأيسر منه فبدأ به، وأيضاً فالكافر يخاف من عذاب الدنيا أكثر من عذاب الآخرة؛ لأنه لا يؤمن بالثاني.

    ***

    (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً(89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً) (الكهف:90)

    قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ } أي: موضع طلوعها، أتبع أولاً السبب إلى المغرب ووصل إلى نهاية الأرض اليابسة مما يمكنه أن يصل إليه ثم عاد إلى المشرق، لأن عمارة الأرض تكون نحو المشرق والمغرب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله زَوَى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها"[47] دون الشمال والجنوب لأن الشمال والجنوب أقصاه من الشمال، وأقصاه من الجنوب كله ثلج ليس فيه سكان، فالسكان يتبعون الشمس من المشرق إلى المغرب، أو من المغرب إلى المشرق.

    ( وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً) وجدها تطلع على قوم ليس عندهم بناء، ولا أشجار ظليلة ولا دور ولا قصور، وبعض العلماء بالغ حتى قال: وليس عليهم ثياب، لأن الثياب فيها نوع من الستر. المهم أن الشمس تحرقهم.

    ***

    (كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً) (الكهف:91)

    قوله تعالى: {كَذَلِكَ } يعني الأمر كذلك على حقيقته.

    ( وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً ) أي قد علمنا علم اليقين بما عنده من وسائل الملك وامتداده، أي: بكل ما لديه من ذلك.

    (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92)حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) (الكهف:93)

    قوله تعالى: { أَتْبَعَ سَبَباً } يعني سار واتخذ سبباً يصل به إلى مراده.

    ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) السدين هما جبلان عظيمان يحولان بين الجهة الشرقية من شرق آسية، والجهة الغربية، وهما جبلان عظيمان بينهما منفذ ينفذ منه الناس.

    ( وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا ) أي: لا بينهما ولا وراءهما.

    ( قَوْماً ) قيل: إنهم الأتراك.

    (لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) فيها قراءتان: "لاَّ يَكَادُونَ يُفْقِهُونَ قَوْلاً" و"لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً" والفرق بينهما ظاهر: لا { يَفْقَهُونَ } يعني هم، لا "يُفْقِهُونَ" أي: غيرهم، يعني هم لا يعرفون لغة الناس، والناس لا يعرفون لغتهم، هذه فائدة القراءتين، وكلتاهما صحيحة، وكل واحدة تحمل معنىً غير معنى القراءة الأخرى، لكن بازدواجهما نعرف أن هؤلاء القوم لا يعرفون لغة الناس، والناس لا يعرفون لغتهم.

    ***

    (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً) (الكهف:94)

    قوله تعالى: { قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ } وحينئذٍ يقع إشكال كيف يكونوا { لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } ثم ينقل عنهم أنهم خاطبوا ذا القرنين بخطاب واضح فصيح: {{ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ }؟

    والجواب عن هذا سهل جداً، وهو أن ذا القرنين أعطاه الله تعالى ملكاً عظيماً، وعنده من المترجمين ما يُعرف به ما يريد، وما يَعرف به ما يريد غيره، على أنه قد يكون الله عز وجل قد ألهمه لغة الناس الذين استولى عليهم كلِّهم، المهم أنهم خاطبوا ذا القرنين بخطاب واضح { قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ }، نادَوه بلقبه تعظيماً له.

    ( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ)يأجوج ومأجوج هاتان قبيلتان من بني آدم كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما حدَّث الصحابة بأن الله عز وجل يأمر آدم يوم القيامة فيقول:

    "يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِير، وَتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ الله شَدِيد" [فاشتد ذلك عليهم] قالوا: يا رسول الله، وأيُّنا ذلك الواحد؟ قال: "أَبْشِرُوا فَإِنَّ مِنْكُم رَجُلٌ وَمِنْ يَأْجُوج ومَأْجُوج أَلْفٌ". ثم قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ..." إلخ الحديث [48].

    وبهذا نعرف خطأ من قال: إنهم ليسوا على شكل الآدميين وأن بعضهم في غاية ما يكون من القِصَر، وبعضهم في غاية ما يكون من الطول، وأن بعضهم له أذن يفترشها، وأذن يلتحف بها وما أشبه ذلك، كل هذا من خرافات بني إسرائيل، ولا يجوز أن نصدقه، بل يقال: إنهم من بني آدم، لكن قد يختلفون كما يختلف الناس في البيئات، فتجد أهل خط الاستواء بيئتهم غير بيئة الشماليين، فكل له بيئة، الشرقيون الآن يختلفون عن أهل وسط الكرة الأرضية، فهذا ربما يختلفون فيه، أما أن يختلفوا اختلافاً فادحاً كما يذكر، فهذا ليس بصحيح.

    (مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ )الإفساد في الأرض يعم كل ما كان غير صالح، وغير أصلح، يفسدونها في القتل، وفي النهب، وفي الانحراف، وفي الشرك، وفي كل شيء، المهم أنهم يحتاجون إلى أحد يحميهم من هؤلاء.

    ( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً) يعني حاجزاً يمنع من حضورهم إلينا، فعرضوا عليه أن يعطوه شيئاً، وهذا اجتهاد في غير محله، لكنهم خافوا أن يقول لا، ولا يمكنهم بعد ذلك، وإلاَّ هذا الاجتهاد: كيف يقولون لهذا الملك الذي فتح مشارق الأرض ومغاربها: { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً) هذا لا يقال إلاَّ لشخصٍ لا يستطيع. لكنهم قالوا ذلك خوفاً من أن يرد طلبهم، يريدون أن يقيموا عليه الحجة بأنهم أرادوا أن يعطوه شيئاً يحميهم به من هؤلاء، قال في الجواب:

    ( مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) (الكهف:95)

    قوله تعالى: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } { مَا } مبتدأ و{ خَيْرٌ } خبر المبتدأ، يعني الذي مكَّني فيه ربي من الملك والمال والخدم، وكل شيء، خير من هذا الخرج الذي تعرضونه عليَّ، وهذا كقول سليمان - عليه الصلاة والسلام - في هدية ملكة سبأ، قال: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ)(النمل: الآية36)وهذا من اعتراف الإنسان بنعم ربه عز وجل التي لا يحتاج معها إلى أحد.

    ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ )أي: بقوة بدنية لا بقوة مالية؛ لأنه عنده من الأموال الشيء العظيم.

    ( أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) يعني أكبر مما سألوا، هم سألوا سداً، ولكنه قال ردماً، يعني أشد من السد، فطلب منهم:

    ***

    (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (الكهف:96)

    قوله تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ } الزُّبَر يعني القطع من الحديد، فجمعوا الحديد وجعلوه يساوي الجبال، وهذا يدل على القوة العظيمة في ذلك الوقت، يعني أرتال من الحديد، تجمع حتى تساوي الجبال الشاهقة العظيمة.

    ( حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) يعني جانبي الجبلين { قَالَ انْفُخُوا } يعني انفخوا على هذا الحديد، وليس المراد بأفواهكم؛ لأن هذا لا يمكن، ولكن انفخوا بالآلات والمعدات التي عنده؛ لأن الله أعطاه ملكاً عظيماً، فنفخوا { حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) والحديد معروف أنه إذا أوقد عليه في النار يكون ناراً، تكون القطعة كأنها جمرة، بل هي أشد من الجمرة، ثم طلب أن يؤتوه قطراً يفرغه عليه، والقطر هو النحاس المذاب كما قال الله تعالى: ) وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْر)(سـبأ: الآية12)، يعني النحاس أرسله الله تعالى لسليمان، بدل ما كان معدناً قاسياً يحتاج إلى إخراج بالمعاول ثم صَهْر بالنار، أسال الله له عين القطر كأنها ماء - سبحان الله -.

    قال ذو القرنين: { آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } فأفرغ عليه القطر - النحاس - فاشتبك النحاس مع قطع الحديد فكان قوياً.

    ***

    (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) (الكهف:97)

    قوله تعالى: { فَمَا اسْطَاعُوا } و"ما استطاعوا" معناهما واحد، وسبق في قصة موسى مع الخضر {ما لم تستطع } و{مالم تستطع).(فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) يعني أن يصعدوا عليه؛ لأنه عالٍ؛ ولأن الظاهر أنه أملس، فهم لا يستطيعون أن يصعدوا عليه.

    ( وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) لم تأتِ التاء في الفعل الأول (اسطاعوا) وأتت فيه ثانياً، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أيهما أشق أن يصعدوا الجبل أو أن يَنقبوا هذا الحديد؟

    الجواب: الثاني أصعب ولهذا قال: { وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) لأنه حديد ممسوك بالنحاس، فصاروا لا يستطيعون ظهوره لعلوه وملاسته، فيما يظهر، ولم يستطيعوا له نقباً لصلابته وقوته، إذاً صار سداً منيعاً وكفى الله شر هؤلاء المفسدين وهم يأجوج ومأجوج.

    ***

    (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً) (الكهف:98)

    قوله تعالى: { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } قالها ذو القرنين وانظر إلى عباد الله الصالحين، كيف لا يسندون ما يعملونه إلى أنفسهم، ولكنهم يسندونه إلى الله عز وجل وإلى فضله، ولهذا لما قالت النملة حين أقبل سليمان بجنوده على وادي النمل، قامت خطيبة فصيحة: ) يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يشعرون (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (النمل:19، أيضاً ذو القرنين رحمه الله قال:

    { هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } وليس بحولي ولا قوتي، ولكنه رحمة به ورحمة بالذين طلبوا منه السد، أن حصل هذا الردم المنيع.

    ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي ) يعني بخروج هؤلاء المفسدين.

    ( جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) يعني جعل هذا السد دكّاً، أي: منهدماً تماماً وسواه بالأرض، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا" [49]. يعني شيء يسير لكن ما ظهر فيه الشق لا بد أن يتوسع.

    ( وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً ) فما هو هذا الوعد؟

    الجواب: الوعد هو أن الله سبحانه وتعالى يخرجهم في آخر الزمان، وذلك بعد خروج الدجال وقتله يخرج الله هؤلاء، يخرجهم في عالم كثير مثل الجراد أو أكثر "فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُون: لَقَدْ كَانَ بِهَذِ مَرَّةً مَاءٌ" ثم "يُحصَرُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ" في جبل الطور، ويلحقهم مشقة ويرغبون إلى الله تعالى في هلاك هؤلاء، "فَيُرْسِلُ اللهُ عَلَيْهمُ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ" يصبحون في ليلة واحدة على كثرتهم، ميتين مِيتة رجل واحد، حتى تنتن الأرض من رائحتهم، فيرسل الله تعالى أمطاراً تحملهم إلى البحر أو يرسل اللهُ طيوراً فَتَحْمِلُهُمْ إلى البحر[50] ، والله على كل شيء قدير، وهذه الأشياء نؤمن بها كما أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، أما كيف تصل الحال إلى ذلك، فهذا أمره إلى الله عز وجل

    ( وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً ) يعني وعد الله تعالى في خروجهم كان { حَقّاً } أي: لا بد أن يقع كل ما وعد الله بشيء فلا بد أن يقع؛ لأن عدم الوفاء بالوعد، إما أن يكون عن عجز، أو إما أن يكون عن كذب، والله والله عز وجل منَزَّهٌ عنهما جميعاً عن العجز، وعن الكذب، فهو عز وجل لا يخلف الميعاد لكمال قدرته، وكمال صدقه.

    ***

    (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً) (الكهف:99)

    قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ } المفسرون الذين رأيت كلامهم يقولون: { يَوْمَئِذٍ } يعني إذا خرجوا صار "يموج بعضهم في بعض"، ثم اختلفوا في معنى "يموج بعضهم في بعض" هل معناه أنهم يموجون مع الناس، أو يموج بعضهم في بعض يتدافعون عند الخروج من السد؟ وإذا كان أحد من العلماء يقول:

    )وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } يعني بعد السد، صاروا هم بأنفسهم يموج بعضهم في بعض، فإن كان أحدٌ يقول بهذا، فهو أقرب إلى سياق الآية، لكن الذي رأيته أنهم يموج بعضهم في بعض يعني إذا خرجوا، { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ } أي: يومئذْ يريد الله عز وجل خروجهم.

    ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) النافخ إسرافيل أحد الملائكة الكرام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاة الليل بهذا الاستفتاح: "اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم"[51] ، هؤلاء الثلاثة الملائكة الكرام، كل واحد منهم موكل بما فيه الحياة، جبريل موكل بما فيه حياة القلوب، ميكائيل بما فيه حياة النبات وهو القَطْر، والثالث إسرافيل بما فيه حياة الناس عند البعث، ينفخ في الصور نفختين. الأولى: فَزعٌ وصعق، ولا يمكن الآن أن ندرك عظمة هذا النفخ، نفخ تفزع الخلائق منه وتصعق بعد ذلك، كلهم يموتون إلاَّ من شاء الله، لشدة هذا النفخ وشدة وقعه، ما يمكن أن نتصور لأن الناس يفزعون، بل فزع من في السموات ومن في الأرض ثم يصعقون - الله أكبر -. شيء عظيم كلما يتصوره الإنسان، يقشعر جلده من عظمته وهوله.

    النفخة الثانية: يقول الله عز وجل : { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } [الزمر: 68 .

    النفخة الثانية يقوم الناس من قبورهم أحياء ينظرون، ماذا حدث؟! لأن الأجسام في القبور، يُنْزِل الله تعالى عليها مطراً عظيماً ثم تنمو في داخل الأرض [52]، حتى إذا تكاملت الأجسام تكاملها التام نفخ في الصور نفخة البعث: (فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)(الزمر: الآية68).

    (فَجَمَعْنَاهُمْ ) أي: جمعنا الخلائق { جَمْعاً } أي: جمعاً عظيماً، فهذا الجمع يشمَل: الإنس، والجن، والملائكة، والوحوش، وجميع الدواب، قال الله تبارك وتعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (الأنعام:38) كل الخلائق، حتى الملائكة - ملائكة السماء - كما قال الله : (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً) (الفجر:22) . يا له من مشهد عظيم، الله أكبر.

    ***

    (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً) (الكهف:100)

    (وَعَرَضْنَا)أي عرضناها لهم فتكون أمامهم - اللّهم أجرنا منها -.

    (جَهَنَّمَ ) اسم من أسماء النار.

    (عَرَضْنَا) يعني عرضاً عظيماً، ولذلك نُكِّر يعني عرضاً عظيماً تتساقط منه القلوب، ومن الحكم في إخبار الله عز وجل بذلك أن يصلح الإنسان ما بينه وبين الله، وأن يخاف من هذا اليوم، وأن يستعد له، وأن يصور نفسه وكأنه تحت قدميه، كما قال الصِّديق رضي الله عنه :

    [ كلنا مصبَّح في أهله والموت أدنى من شراك نعله ] فتصور هذا وتصور أنه ليس بينك وبينه، إلاَّ أن تخرج هذه الروح من الجسد، وحينئذ ينتهي كل شيء.

    ***

    (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) (الكهف:101)

    قوله تعالى: { كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي } هؤلاء الكافرون كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله، لا ينظرون إلى ذكر الله، وقد ذكر الله تعالى فيما سبق - في نفس السورة - أنَّ )عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً)(الكهف: الآية57) فالقلوب، والأبصار، والأسماع كلها مغلقة.

    (وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) هل المراد لا يريدون؟ كقوله تعالى: ) هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاء)(المائدة: الآية112)، أي: هل يريد؟ أو المعنى أنهم لا يستطيعون { سَمْعاً } أي سمع الإجابة، وليس سمع الإدراك؟

    الجواب: يحتمل المَعْنَــيَيْن جميعاً، وكلاهما حق.

    )أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً) (الكهف:102)

    قوله تعالى: {)أَفَحَسِبَ } أي: أفظن { الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ } من هم عباده؟

    الجواب: كل شيء فهو عبد الله: )إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) (مريم:93)

    ومن الذي اتُّخِذَ ولياً من دون الله، أي: عُبد من دون الله؟

    الجواب: عبدت الملائكة، عبدت الرسل، وعبدت الشمس، وعبد القمر، وعبدت الأشجار، وعبدت الأحجار، وعبدت البقر! نسأل الله العافية، الشيطان يأتي ابن آدم من كل طريق.

    ( مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ ) يعني أربابا يدعونهم ويستغيثون بهم وينسون ولاية الله عز وجل يعني أيظن هؤلاء الذين فعلوا ذلك أنهم يُنصرون؟

    الجواب: لا، لا يُنصرون، ومن ظن ذلك فهو مُخَبَّل في عقله.

    ( إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً) يعني أن الله هيأ النار { نُزُلاً} للكافرين، ومعنى النُّزُل ما يقدمه صاحب البيت للضيف، ويحتمل أن يكون بمعنى المنْزِل، وكلاهما صحيح، فهم نازلون فيها، وهم يعطونها كأنها ضيافة، وبئست الضيافة.

    ***

    (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً) (الكهف:103)

    قوله تعالى: {قُلْ } أي يا محمد للأمة كلها: (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً)

    الجواب: نعم.

    نريد أن نُخبَر عن الأخسرين أعمالاً، حتى نتجنب عمل هؤلاء، ونكون من الرابحين، وقد بين الله تعالى في سورة العصر أن كل إنسان خاسر، إِلاَّ من اتصف بأربع صفات:

    1- الذين آمنوا.

    2 - وعملوا الصالحات.

    3 - وتواصوا بالحق.

    4 - وتواصوا بالصبر.

    وهنا يقول:

    ***

    (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (الكهف:104)

    قوله تعالى: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } يعني ضاع سعيهم وبَطل في الحياة الدنيا لكنهم:

    {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } فَغُطي عليهم الحق – والعياذ بالله – وظنوا وهم على باطل أن الباطل هو الحق، وهذا كثير، فاليهود مثلاً يظنون أنهم على حق، والنصارى يظنون أنهم على حق، والشيوعيون يظنون أنهم على حق، كل واحد منهم يظن أنه على حق، ولذلك مكثوا على ما هم عليه، ومنهم من يعلم أنه ليس على حق، لكنه – والعياذ بالله – لاستكباره واستعلائه أصر على ما هو عليه.

    ***

    (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً) (الكهف:105)

    قوله تعالى: { بِآياتِ رَبِّهِمْ } الكونية أو الشرعية؟

    الظاهر كلتاهما، لكن الذين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم،كذبوا بالآيات الشرعية، ولم يكذبوا بالآيات الكونية، والدليل أن الله تعالى أخبر أنهم إذا سُئلوا: من خلق السموات والأرض؟ يقولون: الله - -، ولا أحد منهم يدعي أن هنالك خالقاً آخر مع الله، لكنهم كذبوا بالآيات الشرعية، كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كذبوا بما جاء به، فهم داخلون في الآية.

    ( وَلِقَائِهِ ) أي: كذبوا بلقاء الله، ومتى يكون لقاء الله؟

    الجواب: يكون يوم القيامة، فهؤلاء كذبوا بيوم القيامة وجادلوا، وأُروا الآيات ولكنهم أصروا، قال الله تعالى: )أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ(77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً) (يّـس:78) يكذبنا فيه فقال: { مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [يس: 78] تَحَدٍّ! من يحييها؟ رميم لا فيها حياة ولا شيء؟

    )قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يّـس:79)

    ومن الذي أنشأها أوّل مرة؟

    الجواب: هو الله، والإعادة أهون من الابتداء كما قال الله عز وجل Sadوَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)(الروم: الآية27)هذا دليل، إذاً الدليل على إمكان البعث، وإحياء العظام وهي رميم:

    1 - أن الله تعالى ابتدأها ، ولما قال زكريا حين بُشِّر بالولد وكان قد بلغ في الكِبَر عتيا، إن امرأته عاقر، قال الله تعالى: (قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (مريم:9) ، فالذي خلقك من قبل، وأنت لم تكن شيئاً قادر على أن يجعل لك ولداً.

    2 – ( وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)(يّـس: الآية79)وإذا كان الله بكل خلق عليماً، فإنه لن يتعذر عليه أن يخلق ما يشاء، من الذي يمنعه إذا كان عليماً بكل خلق؟

    الجواب: لا أحد يمنعه.

    3 – (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (يّـس:80) شجر أخضر يخرج منه نار، فالشجر الأخضر يضرب بالزند ثم ينقدح ناراً، وكان العرب يعرفون هذا، فالذي يخرج هذه النار، وهي حارة يابسة من غصن رطب بارد، يعني متضادان غاية التضاد، قادر على أن يخلق الإنسان، أو أن يعيد خلق العظام وهي رميم، ثم حقق هذه النار بقولهSadفَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ )

    4 – (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (يّـس:81)

    الجواب: بلى، قال الله تعالىSadلَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (غافر:57) فالذي خلق السموات والأرض بِكِبَرِهَا، وعظمها قادر على أن يعيد جزءاً من لا شيء بالنسبة للأرض، من أنت يا ابن آدم بالنسبة للأرض؟ لا شيء، أنت خلقت منها، أنت بعض يسير منها، فالذي قدر على خلق السموات والأرض، قادر على أن يخلق مثلهم، قال الله تعالى مجيباً نفسه: ) بَلَى)(يّـس: الآية81).

    5 – (وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)(يّـس: الآية81)الخلَّاق صيغة مبالغة، وإن شئت فاجعلها نسبة، يعني أنه موصوف بالخلق أزلا وأبدا، وهو تأكيد لقوله قبل: {وهو بكل خلق عليم } [يس: 79 .

    6 – (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّـس:82)لا يحتاج إلى عمال ولا بنَّائين ولا أحد كن فيكون }؛ ولهذا قال Sadإِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) (يّـس:53)

    كلمة واحدة.

    7 –(فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (يّـس:83)

    كل شيء فبيده ملكوته عز وجل يتصرف كما يشاء، فنسأله عز وجل أن يهدينا صراطه المستقيم.

    8 -{ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [يس: 83] فهذا هو الدليل الثامن. وإنما كان دليلاً؛ لأنه لولا رجوعنا إلى الله عز وجل لكان وجودنا عبثاً، وهذا ينافي الحكمة، فتأمل سياق هذه الأدلة الثمانية في هذا القول الموجز، ومع ذلك ينكرون لقاء الله.

    في قوله:{ بِآياتِ رَبِّهِمْ } إلزام لهم بالإيمان؛ لأنه كونه ربهم عز وجل يجب أن يطيعوه وأن يؤمنوا به، لكن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن.

    ( فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ) يعني بَطَلَت ولم ينتفعوا بها، حتى لو أن الكافر أحسن وأصلح الطرق وبنى الرُّبط، وتصدق على الفقراء فإن ذلك لا ينفعه، إن أراد الله أن يثيبه عجل الله له الثواب في الدنيا، أما في الآخرة فلا نصيب له، نعوذ بالله نسأل الله الحماية والعافية، لأن أعماله حبطت، ولكن هل يحبط العمل بمجرد الردة أم لا بد من شرط؟

    الجواب: لا بد من شرط، وهو أن يموت على ردته، قال الله تعالىSad وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)(البقرة: الآية217). أما لو ارتد، ثم مَنَّ الله عليه بالرجوع إلى الإسلام، فإنه يعود عليه عمله الصالح السابق للردة.

    ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) يعني أنه لا قدر لهم عندنا ولا ميزان، وهو كناية عن سقوط مرتبتهم عند الله عز وجل .

    وقيل: إن المعنى أننا لا نزنهم، لأن الوزن إنما يحتاج إليه لمعرفة ما يترجح من حسنات أو سيئات، والكافر ليس له عمل حتى يوزن، ولكن الصحيح أن الأعمال توزن كُلَّها، قال الله تعالىSadفَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ(6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضية (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ(Cool فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ(9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ(10) نَارٌ حَامِيَةٌ) (القارعة:11) . فيقام الوزن؛ لإظهار الحجة عليه، والمسألة هذه فيها خلاف.

    ***

    (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً) (الكهف:106)

    قوله تعالى: {ذَلِكَ } يعني ذلك المذكور من أنه لا يقام لهم الوزن وأن أعمالهم تكون حابطة.

    ( جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا ) الباء للسببية و(ما) مصدرية وتقدير الكلام: بكفرهم.

    (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً) قوله: {وَاتَّخَذُوا} معطوفة على{كَفَرُوا} أي: بما كفروا واتخذوا، فهم - والعياذ بالله - كفروا وتعدى كفرهم إلى غيرهم، صاروا يستهزئون بالآيات، ويستهزئون بالرسل، ولم يقتصروا على كفرهم بالله.

    ( هُزُواً ) أي: محلَّ هُزؤ، يسخرون منهم، ولهذا قال الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً)(الأنبياء: الآية36): ) أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً)(الفرقان: الآية41)والاستفهام هنا لا يخفى أنه للتحقير، أهذا الرسول! (إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا)(الفرقان: الآية42). أعوذ بالله؛ يفتخرون أنهم صبروا على آلهتهم وانتصروا لها.

    ثم ذكر ثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم فقال:

    ***

    (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) (الكهف:107)

    بدل ما كانت جهنم نزلا للكافرين، صارت جنات الفردوس نزلا للمؤمنين، لكن بشرطين:

    1 - الإيمان 2 - العمل الصالح. والإيمان محله القلب، والعمل الصالح محله الجوارح، وقد يراد به أيضاً عمل القلب، كالتوكل والخوف والإنابة والمحبة، وما أشبه ذلك.

    و{ الصَّالِحَاتِ } هي التي كانت خالصة لله، وموافقة لشريعة الله.

    ولا يمكن أن يكون العمل صالحاً إلاَّ بهذا، الإخلاص لله، والموافقة لشريعة الله، فمن أشرك؛ فعمله غير صالح، ومن ابتدع فعمله غير صالح، ويكون مردوداً عليهما، ودليل ذلك قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: "أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ"[53] .

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"[54] . أي: مردود عليه، فصار العمل الصالح ما جمع وصفين: الإخلاص لله، والمتابعة لشريعة الله، أو لرسول الله؟

    الجواب: لشريعة الله أحسن، إلاَّ إذا أريد بالمتابعة لرسول الله، الجنس، دون محمد صلى الله عليه وسلم فنعم، لأن المؤمنين من قوم موسى وقوم عيسى يدخلون في هذا.

    ( كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ) قوله: { كَانَتْ لَهُمْ } هل المراد بالكينونة هنا الكينونة الماضية، أو المراد تحقيق كونها نزلاً لهم؟ كقوله تعالى: {وكان الله غفورا رحيما }؟ نقول: الأمران واقعان، فكانت في علم الله نزلا لهم، وكانت نزلا لهم على وجه التحقيق؛ لأن "كان" قد يسلب منها معنى الزمان، ويكون المراد بها التحقيق.

    ( جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ) هل هذا من باب إضافة الموصوف إلى صفته، أو لأن الفردوس هو أعلى الجنَّات، والجنَّات الأُخرى تحته؟

    الجواب: الظاهر الثاني لأنه ليس جميع المؤمنين الذين عملوا الصالحات ليسوا كلهم في الفردوس، بل هم في جنات الفردوس، والفردوس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ"[55] أعلى الجنة ووسط الجنة معناه أن الجنة مثل القبَّة، وفيه أيضاً وصف رابع: ومنه تفجر أنهار الجنة.

    ***

    (خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) (الكهف:108)

    قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا } أبداً، ولا نزاع في هذا بين أهل السنة.

    ( لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) أي لا يطلبون عنها بدلاً، { حِوَلاً } أي: تحولا؛ لأن كل واحد راضٍ بما هو فيه من النعم، وكل واحد لا يرى أن أحداً أكمل منه، وهذا من تمام النعيم، أنت مثلاً لو نزلت قصراً منيفاً فيه من كل ما يبهج النفس، ولكنك ترى قصر فلان أعظم منه، هل يكمل سرورك؟

    الجواب: من يريد الدنيا لا يكمل سروره، لأنه يرى أن غيره خير منه، لكن في الجنة، وإن كان الناس درجات، لكن النازل منهم - وليس فيهم نازل - يرى أنه لا أحد أنعم منه، عكس أهل النار، أهل النار يرى الواحد منهم أنه لا أحد أشد منه، وأنه أشدهم عذاباً.

    ( لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ) يعني لو قيل للواحد: هل ترغب أن نجعلك في مكان آخر غير مكانك لقال: "لا"، وهذا من نعمة الله على الإنسان أن يقنع الإنسان بما أعطاه الله عز وجل وأن يطمئن ولا يقلق.

    ***

    (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (الكهف:109)

    قوله تعالى: {قُلْ } أي: يا محمد: { لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً } يعني حبراً يكتب به ( لِكَلِمَاتِ رَبِّي )

    ( لَنَفِدَ الْبَحْرُ ) قبل أن تنفد كلمات الله عز وجل، لأنه المدبر لكل الأمور، وبكلمة {كن } لا نَفاد لكلامه عز وجل، بل أن في الآية الأخرى { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ } ، أي: لو كان أقلاماً ) وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) (لقمان:27) . لَنَفِد البحر وتكسرت الأقلام وكلمات الله - جلَّ وعلا - باقية.

    ( وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ) يعني زيادة، فإن كلمات الله لا تنفد، وفي هذا نص صريح على إثبات كلام الله عز وجل، وكلمات الله عز وجل كونية، وشرعية، أما الشرعية فهو ما أوحاه إلى رسله، وأما الكونية فهي ما قضى به قَدَرهُ (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّـس:82) ، وكل شيء بإرادته، إذاً فهو يقول لكل شيء { كُنْ فَيَكُونُ }، ومن الكلمات الشرعية ما أوحاه عز وجل إلى من دون الرسل، كالكلمات التي أوحاها إلى آدم، فإن آدم عليه الصلاة والسلام، نبي وليس برسول، وقد أمره الله ونهاه، والأمر والنهي كلمات شرعية.

    ***

    (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف:110)

    قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ } يعني أعلن للملأ أنك لست ملكاً، وأنك من جنس البشر { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } وذِكر المثلية لتحقيق البشرية، أي: أنه بشر لا يتعدى البشرية، ولذلك كان - عليه الصلاة والسلام - يغضب كما يغضب الناس، وكان صلى الله عليه وسلم يمرض كما يمرض الناس، وكان يجوع كما يجوع الناس، وكان يعطش كما يعطش الناس، وكان يتوقى الحر كما يتوقاها الناس، وكان يتوقى سهام القتال كما يتوقاها الناس، وكان ينسى كما ينسى الناس، كل الطبيعة البشرية ثابتة للرسول - عليه الصلاة والسلام - وكان له ظِلٌ كما يكون للناس.

    أمّا من زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نُورَاني، ليس له ظل فهذا كذب بلا شك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كغيره من البشر له ظل ويستظل أيضاً، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له ظل، لنقل هذا نقلاً متواتراً؛ لأنه من آيات الله عز وجل إذاً الرسول صلى الله عليه وسلم بشر مثل الناس، وهل يقدر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجلب للناس نفعاً أو ضراً؟

    الجواب: لا، كما أمره الله عز وجل أن يقول: (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً) (الجـن:21) ، ومن العجب أن أقواماً لا يزالون موجودين، يتعلقون بالرسول صلى الله عليه وسلم أكثر مما يتعلقون بالله عز وجل إذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم اقشعرت جلودهم، وإذا ذكر الله كأن لم يُذكر! حتى إن بعضهم يؤثر أن يحلف بالرسول صلى الله عليه وسلم دون أن يحلف بالله عز وجل وحتى إن بعضهم يرى أن زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، أفضل من زيارة الكعبة، ولقد شاهدت أناساً حُجزوا عن المدينة في أيام الحج لقرب وقت الحج، لأنه إذا قرب وقت الحج منعوهم من الذهاب إلى المدينة، لئلَّا يفوتهم الحج، يبكي! يقول: أنا منعت من الأنوار، ومنعت من كذا وكذا ويعدد ما نسيته الآن، فيقال له: أنت لماذا جئت؟ قال: جئت لمشاهدة الأنوار كأنه ما جاء إلا لزيارة المدينة، ونسي أنه جاء ليؤدي فريضة الحج، وسبب ذلك الجهل؛ وأن العلماء لا يبينون للعامة، وإلاّ فالعامي عنده عاطفة جياشة لو أنه أخبر بالحق لرجع إليه.

    ( يُوحَى إِلَيَّ ) هذا هو الميزة للرسول صلى الله عليه وسلم، أنه يوحى إليه، وغيره لا يوحى إليه، إلاَّ إخوانه من المرسلين عليهم الصلاة والسلام.

    ( أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) هذه الجملة حصر، كأنه قال: لا إله إلا واحد، واستفدنا أنها للحصر من "إنَّما"؛ لأن كلمة "إنما" من أدوات الحصر، تقول: "إنما زيد قائم" يعني ليس له وصف غير القيام، وتقول: "إنما العلم بالتعلم" وليس هناك طريق للعلم إلاَّ بالتعلم.

    ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ ) أي: يُأمِّل أن يلقى الله عز وجل ويؤمن بذلك.

    ( فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ) دعوة يسيرة سهلة، أتريد أن تلقى ربك وقلبك مملوء بالرجاء؟ إذا كان كذلك

    { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً }. كل إنسان عاقل يرجو لقاء الله عز وجل ولقاء الله عز وجل ليس ببعيد، قال الله تعالىSadمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (العنكبوت:5). قال بعض العلماء: إن قوله { فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ } بمعنى قولِهم "كل آتٍ قريب".

    ( فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً )إذا قال قائل: ألستم قررتم أن العمل الصالح، لا بد فيه من إخلاص ومتابعة؟ قلنا: بلى، لكنه لما كان الإخلاص ذا أهمية عظيمة ذكره تخصيصاً بعد دخوله ضمن قوله: { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً }.

    وتأمل قوله: { بِعِبَادَةِ رَبِّهِ } ليتبين لك أنه جلَّ وعلا حقيق بأن لا يشرَك به؛ لأنه الرب الخالق المالك المدبر لجميع المخلوقات، إننا نقول بقلوبنا وألسنتنا: "ربنا الله" ونسأل الله تعالى الاستقامة حتى ندخل في قوله تعالى

    (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ إلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30)

    والحمد لله الذي وفقنا لإكمال هذه السورة، وصلّى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مايو 16, 2024 9:19 pm